التكنولوجيا

كيف تغيّر البيانات الضخمة اتخاذ القرار في الأعمال الرقمية؟

كيف تغيّر البيانات الضخمة اتخاذ القرار في الأعمال الرقمية؟

قبل عقد من الزمن، كان اتخاذ القرار في كثير من الشركات الرقمية يعتمد بدرجة كبيرة على الخبرة الشخصية والتقدير البشري. مدير منتج يراهن على ميزة جديدة لأنه يشعر أنها ستنجح، أو فريق تسويق يطلق حملة بناءً على توقعات مبنية على تجارب سابقة. هذا النهج لم يكن خاطئًا بالكامل، لكنه لم يعد كافيًا في سوق تحكمه السرعة، وتشتد فيه المنافسة، وتُقاس فيه النتائج لحظيًا. هنا ظهرت البيانات الضخمة ليس كأداة تقنية، بل كلغة جديدة لاتخاذ القرار، حيث بدأت الشركات في تحويل الأرقام الخام إلى رؤى قابلة للتنفيذ تُعرف اليوم بمفهوم الذكاء المالي.

التحول الحقيقي لم يحدث لأن الحدس فقد قيمته، بل لأن القرار الحديث لم يعد يُبنى على الانطباع وحده. شركات عالمية مثل Amazon تُعد مثالًا واضحًا على هذا التحول؛ فقرارات عرض المنتجات، وترتيب النتائج، وحتى الأسعار الديناميكية، لا تعتمد على أفضل تخمين، بل على تحليل مستمر لسلوك ملايين المستخدمين في الوقت الفعلي، وهو ما أشار إليه تقرير Harvard Business Review حول ثقافة القرار المبني على البيانات داخل الشركة.

ما المقصود بالبيانات الضخمة في سياق الأعمال الرقمية؟

البيانات الضخمة لا تعني فقط تكدّس الأرقام. قيمتها الحقيقية تكمن في تداخل الحجم والسرعة والتنوع والجودة. في الأعمال الرقمية الحديثة، تأتي البيانات من نقاط تماس متعددة: التطبيقات، المواقع، أنظمة إدارة العملاء، الحملات الإعلانية، ووسائل الدفع.

شركة Netflix مثال كلاسيكي على هذا التكامل. المنصة لا تكتفي بتتبع ما يشاهده المستخدم، بل تحلل متى يتوقف، ومتى يعيد المشاهدة، وعلى أي جهاز، وفي أي توقيت. هذه البيانات لا تُستخدم فقط لتحسين التوصيات، بل لتوجيه قرارات إنتاج المحتوى نفسها، وهو ما أكده موقع Netflix Tech Blog عند شرح كيف تم اتخاذ قرار الاستثمار في أعمال أصلية بناءً على أنماط مشاهدة حقيقية، لا على افتراضات إبداعية فقط.

كيف أعادت البيانات تشكيل قرارات تصميم المنتج؟

في السابق، كان تطوير المنتج يدور حول إضافة ميزات جديدة. اليوم، أصبحت الشركات الناضجة تقيس أثر كل تغيير قبل وبعد تطبيقه. Google، على سبيل المثال، تُجري آلاف اختبارات A/B سنويًا على واجهاتها ومنتجاتها المختلفة. تغيير بسيط في لون زر أو ترتيب عنصر قد يخضع لتحليل دقيق قبل اعتماده.

وفقًا لدراسة نشرتها Google نفسها حول Data-Driven UX، فإن بعض التحسينات التي بدت غير مؤثرة نظريًا أدت إلى زيادات ملموسة في التفاعل، بينما تم إلغاء أفكار كان الفريق متحمسًا لها لأنها لم تُظهر أثرًا حقيقيًا على سلوك المستخدم.

تحليل سلوك العميل: من الأرقام إلى الدوافع

البيانات الضخمة تسمح بفهم أعمق من مجرد كم مستخدم اشترى. سبوتيفاي على سبيل المثال، لا تكتفي بعدد مرات التشغيل، بل تحلل أنماط الاستماع، وتغيّر الذوق الموسيقي عبر الزمن، وحتى الحالة المزاجية للمستخدم بناءً على نوع القوائم التي يختارها.

هذه التحليلات تحولت إلى قرارات مباشرة في المنتج، مثل إنشاء قوائم مخصصة كـ Discover Weekly، والتي أشارت تقارير الشركة إلى أنها ساهمت في تقليل معدل التخلي عن الخدمة وزيادة زمن الاستخدام بشكل ملحوظ. هنا نرى كيف تتحول البيانات من أرقام صامتة إلى فهم للدوافع النفسية والسلوكية.

النمذجة التنبؤية: عندما يصبح القرار استباقيًا

التحول الأكبر الذي أحدثته البيانات الضخمة هو نقل القرار من رد الفعل إلى الاستباق. شركة Amazon تستخدم نماذج تنبؤية لتوقع الطلب على المنتجات قبل حدوثه فعليًا، ما يسمح لها بتحسين إدارة المخزون وتقليل تكاليف التخزين والشحن.

وفي القطاع المالي، تعتمد شركات مثل PayPal على التحليل التنبؤي لاكتشاف الاحتيال في الزمن الحقيقي. وفقًا لتقارير PayPal الرسمية، فإن هذه النماذج قلّلت من الخسائر المحتملة بمئات الملايين سنويًا، وهو مثال مباشر على كيف تتقاطع التحليلات التشغيلية مع الذكاء المالي وصناعة القرار الاستراتيجي.

لماذا تفشل مشاريع البيانات الضخمة رغم الاستثمار الكبير؟

رغم كل هذه الأمثلة، تفشل مشاريع كثيرة لأن البيانات تُعامل كغاية لا كوسيلة. تقرير McKinsey الشهير حول التحول الرقمي يشير إلى أن نسبة كبيرة من مشاريع البيانات لا تحقق العائد المتوقع بسبب غياب الربط بين التحليل والقرار التنفيذي.

تُبنى منصات متقدمة، لكن الفرق لا تعرف كيف تستخدم النتائج، أو لا تثق بها، أو لا تُدمج في سير العمل اليومي. النجاح الحقيقي يتطلب وضوحًا في السؤال قبل الأداة: ما القرار الذي نريد تحسينه؟ وما المؤشر الذي سنقيس به النجاح؟

البيانات الضخمة واتخاذ القرار في الوقت الحقيقي

أحد التحولات الأكثر حساسية في عالم الأعمال الرقمية هو الانتقال من القرار المؤجل إلى القرار اللحظي. لم يعد كافيًا أن تُحلل البيانات في نهاية الأسبوع أو الشهر، بل أصبح كثير من القرارات يُتخذ أثناء حدوث التفاعل نفسه. هذا النوع من اتخاذ القرار في الوقت الحقيقي يعتمد على تدفقات بيانات مستمرة، ونماذج قادرة على التفاعل فورًا مع السلوك.

شركة Uber مثال واضح على ذلك. التسعير الديناميكي لا يُحدَّد مسبقًا، بل يتغير لحظيًا بناءً على كثافة الطلب، وعدد السائقين المتاحين، والموقع الجغرافي، وحتى الظروف الخارجية. القرار هنا لا ينتظر تقريرًا تحليليًا، بل يُولد تلقائيًا من النظام، وهو ما سمح للشركة بتحقيق توازن بين العرض والطلب وتحسين الإيرادات في نفس اللحظة.

خاتمة

البيانات الضخمة لم تعد رفاهية تقنية، بل بنية تحتية للقرار الحديث. التجارب العالمية تثبت أن الشركات التي تفوقت لم تفعل ذلك لأنها امتلكت بيانات أكثر، بل لأنها عرفت كيف تربط البيانات بسلوك المستخدم، ثم بالقرار، ثم بالأثر المالي. في هذا العالم، من يفهم البيانات يفهم السوق، ومن يفهم السوق يملك القدرة على التقدم خطوة قبل المنافسين.

السابق
محامو روزير يتحركون لرفض تهم الرهان
التالي
بدلة جديدة تتحدى أضرار بوابة النقل