في قلب العاصمة، دمشق، حيث يلتقي عبق التاريخ بوهج المستقبل، عقدت وزارة النقل السورية بالتعاون مع تطبيق النقل التشاركي (يلاجو) YallaGo، منتدى ريادة الأعمال في رقميات النقل (Move)، ليكون أول منصة وطنية تجمع بين الحكومة والقطاع الخاص والمشاريع الناشئة في مجال النقل الرقمي.
وحسب مراقبين وخبراء، فإن ذلك المنتدى الرائد، لم يكن حدثًا تقليديًا، بل كان كان إعلانًا واضحًا عن إرادة جماعية لتغيير واقع النقل في سوريَة، إذ افتتح معالي يعرب بدر، وزير النقل السوري، أعمال المنتدى بكلمات كلها تفاؤل، مؤكدًا أن هذا اللقاء يشكل “خطوة رائدة نحو التحول الرقمي“، وشدد على أن التعاون بين القطاعين العام والخاص يشكل حجر الأساس في تطوير قطاع النقل وتحويله إلى قطاع أكثر كفاءة واستدامة.
ومن جانبه، رسم معالي عبد السلام هيكل، وزير الاتصالات وتقانة المعلومات السوري، صورة مستقبلية طموحة، منوهًا إلى أن ” سوريَة تمتلك مقومات الابتكار والموقع الجغرافي المؤهل لجعلها مركزًا إقليميًا في مجال النقل الرقمي”.
وأشار الوزير هيكل إلى أن الحكومة السورية تسعى إلى توفير بيئة رقمية محفزة للمشاريع الريادية لصنع فرص اقتصادية جديدة.
خبرات دولية:
لم يقتصر الحضور على الخبراء المحليين، بل امتد ليشمل خبرات دولية راكمت تجاربها على مر السنين، فعبر الإنترنت، شارك عمر الغبرة، وزير النقل الكندي السابق، في المنتدى، موضحًا أن التحديات التي تواجه قطاع النقل في سوريَة، يمكن التغلب عليها من خلال الابتكار والتحول الرقمي، ومنوهًا إلى أن الرقمنة والاستدامة هما الأساس لإعادة تشغيل القطاع وتحسين حركة النقل للأفراد والبضائع.
ولفت الغبرة إلى أن التقنيات الرقمية تسهم في جذب الاستثمارات العالمية وتحقيق كفاءة أعلى في تشغيل أنظمة النقل، وأن تحديث البنية التحتية واعتماد النقل المتعدد الوسائط واستخدام الذكاء الاصطناعي هي خطوات مهمة في ذلك الاتجاه.
من الرؤية إلى التطبيق:
من جهته، كشف خالد كشحة، مدير مديرية تنظيم نقل البضائع في وزارة النقل، عن أحد المحاور العملية للمنتدى، الذي يتمثل في تطوير منصات رقمية تنظم حركة نقل البضائع والركاب، موضحًا أن هذه المنصات سوف تسهم في إنشاء أنظمة تتبع حديثة وجمع بيانات دقيقة لتعزيز سلامة وأمن النقل التجاري.
ولم تكن الطموحات الحكومية مجرد وعود في الهواء، فقد أعلنت ريا عرفات، مستشارة وزير النقل لشؤون التحول الرقمي، حصيلة ملموسة للمنتدى، إذ تم تقديم 138 مشروعًا وفكرة ريادية يجري تقييمها لاختيار الأفضل لتطبيقه بشكل عملي، ومن ثم؛ فإن هذا العدد الكبير ليس سوى دليل واضح على الحماس الشبابي والطاقة الإبداقة الكامنة التي تنتظر من يطلقها.
مواجهة التحديات.. ونماذج ملهمة:
لم يتغاضَ المشاركون عن العقبات التي تقف في طريق النجاح والتطور، إذ ناقش الحضور بصراحة أبرز التحديات، وعلى رأسها ضعف البنية التحتية للاتصالات في بعض المناطق، ونقص التمويل الميسر للمشاريع الناشئة، والفجوة التشريعية التي تتطلب تحديث القوانين لمواكبة هذا القطاع سريع التطور.
ولكن في وجه تلك التحديات، وقف محمد مرعي، مدير مديرية المعلوماتية في وزارة النقل، ليعلن هدفًا طموحًا وواضحًا: “رقمنة 60% من خدمات النقل بحلول عام 2028″، إذ من المتوقع أن يتحقق هذ الهدف من خلال إنشاء منصة وطنية موحدة، سوف تكون العمود الفقري للتحول الرقمي، وتعمل على تحسين الكفاءة التشغيلية وتسهيل التواصل بين جميع الجهات المعنية.
وفي سياق ذي صلة، فإن المنتدى كان بوابة لإطلاق الطاقات وإلهام العقول، فقد تنوعت المشاريع الريادية المعروضة في مجال النقل الرقمي، مما يعكس ثراء الأفكار وقدرتها على معالجة مشاكل حقيقية، ومن أبرز هذه المشاريع:
- مشروع “رقيب”: مشروع مخصص لمراقبة الطرق وتعزيز السلامة المرورية.
- تطبيق “تذكرتي”: تطبيق للتذاكر الذكية يوفر الوقت والجهد على المستخدمين.
- تطبيق هوب هوب (Hop Hop): تطبيق مخصص لمشاركة السيارات، يهدف إلى تخفيف الازدحام وتقليل التلوث البيئي.
- منصة (زاجل): منصة متخصصة في تنظيم شحن البضائع وتحسين كفاءة الخدمات اللوجستية.
- سوق (حوش بلاس): أول سوق سيارات سوري متكامل مدعوم بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتُعدّ هذه المشاريع وغيرها دليلًا حيًا على أن العقل السوري يمتلك قدرة كبيرة على الابتكار والنجاح متى وُفّرت له البيئة المناسبة والظروف الداعمة.
بيئة محفزة للابتكار:
لم يغب الجانب التمكيني والتمويلي عن المنتدى، فقد أوضح، خبير الدفع الإلكتروني في مصرف سوريَة المركزي، السيد عمر حلبي، أن هناك إيمانًا كاملًا بالتحول الرقمي من أعلى مستوى في الدولة.
وكشف حلبي عن خطوات جادة لتوحيد البنية التحتية للدفع الإلكتروني، مما يسمح باستخدام البطاقة البنكية السورية في أي صراف آلي بغض النظر عن المصرف المصدر.
كما كشف حلبي أيضًا عن محادثات متقدمة مع شركة (فيزا) لربط النظام السوري بمنظومة الدفع العالمية، مما سيفتح آفاقًا غير مسبوقة أمام رواد الأعمال، ويُعزز التصنيف الائتماني للشركات.
وفي المقابل، عبّر السيد ناجي شاوي، رئيس اللجنة الوطنية السورية لغرفة التجارة الدولية، في تصريحات صحفية عن تفاؤله الحذر، مقرًا بأن “البناء من الصفر أسهل من إصلاح القواعد”، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى حدوث تطور في القوانين وتحسن في واقع القطاع الخاص والمصارف، مما يعزز فرص النجاح.
وأبرز شاوي الفوائد الملموسة للرقمنة، من توفيرٍ في التكاليف وتقليلٍ للتلوث وكسبٍ للوقت، بالإضافة إلى إمكانية تتبع الطلبيات بدقة.
النقل الرقمي.. حكايات نجاح:
من جانب آخر، أضفت جلسات الحوار مع رواد الأعمال الناجحين بعدًا إنسانيًا ملهمًا على المنتدى، فقد استمع الحضور إلى قصة السيد خالد مصطفى، الشريك المؤسس لشركة يلا جو، الذي انطلق من مبدأ “أينما وجدت الحياة وجدت الحركة، ويجب أن يوجد ما يسهلها”، محولًا فكرته من مكتب صغير في دمشق إلى شركة تضم 120 موظفًا.
كما ألهمت قصة الشابين مهند شاكر سمعان ورامي الناصر، مؤسسي تطبيق موفو (Movo)، الذين اتخذا قرارًا جريئًا بالعودة من المغترب إلى سوريَة في عام 2020 ليبدآ مشروعهما من الصفر، متطورين من خدمة توصيل مجانية بسيطة إلى منصة شاملة تدعم الدفع الإلكتروني المحلي والعالمي.
أما مالك كنعان، المدير العام لتطبيق (تفضل)، فقدم نموذجًا مختلفًا للنجاح، إذ تحول من موزع لبطاقات رصيد الهاتف إلى رائد أعمال رقمي، لافتًا إلى أن الإصرار والعزيمة يمكن أن يعوضا أي نقص في الخبرة التقنية الأولية.
وفي تعليقه على فعاليات المنتدى، رأى الخبير التقني، خالد الخليل، في حديثه إلى موقع (البوابة التقنية) أن ذلك اللقاء ليس نقطة نهاية، بل بداية طريق طويل نحو تحول رقمي شامل، مضيفًا أن ذلك التجمع قد جاء تأكيدًا على أن مستقبل النقل في سوريَة سيكون رقميًا بامتياز، وقائم على التعاون والثقة بين جميع الأطراف.
وختم الخليل بالقول: “لقد أرسى المنتدى أساسًا متينًا لشراكة حقيقية، حيث يكون المستثمر شريكًا، ورائد الأعمال محركًا، والحكومة ميسرة وداعمة. إنها رحلة واعدة تضع سوريَة على عتبة عصر جديد، عصر النقل الذكي، الذي لا يعرف حدودًا إلا حدود الابتكار نفسه والتي هي أمر مستمر ومتطور بشكل دائم”.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط