في أمسية وصفت بأنها محاولة لرأب الصدع الدبلوماسي والسياسي بين البيت الأبيض ووادي السيليكون، استضاف الرئيس دونالد ترامب عشاءً رسمياً في قاعة الطعام بالبيت الأبيض، ضم ما يقرب من ستة وثلاثين من أبرز الرؤساء التنفيذيين وقادة قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة. لم يكن هذا مجرد عشاء بروتوكولي، بل كان حدثاً يحمل ثقلاً سياسياً واقتصادياً كبيراً، خصوصاً بالنظر إلى العلاقة المتقلبة تاريخياً بين ترامب وكثير من عمالقة التكنولوجيا.
كان الهدف الأساسي لهذا التجمع هو حشد دعم القطاع الخاص لسياسات الإدارة التي تركز على تعزيز الاستثمار المحلي، تحديداً في القطاعات الاستراتيجية التي تعتبر حاسمة بالنسبة للولايات المتحدة عالمياً، وعلى رأسها – بالطبع – قطاع الذكاء الاصطناعي. كان البيت الأبيض يضغط بقوة لضمان بقاء الابتكار ورؤوس الأموال المخصصة للذكاء الاصطناعي الشامل (AGI) داخل الحدود الأمريكية، بدلاً من تسربها إلى الخارج في هذا السباق المحموم التي تتقدم فيه الصين بسرعة.
وسط هذا الحشد، كان أبرز الحضور هو مارك زوكربيرج (الرئيس التنفيذي لشركة Meta) المعروف بتاريخ طويل من العلاقات المتوترة مع الرئيس ترامب، حيث أن قبل عام واحد فقط كانت قد تصاعدت التوترات حتى قام ترامب بتهديد زوكربيرج علناً بالسجن بسبب سياسات منصات التواصل الاجتماعي، لكن الأشهر التي سبقت هذا العشاء شهدت تغيراً جذرياً، حيث أفادت تقارير بأن زوكربيرج بذل جهوداً كبيرة “لكسب ود” الإدارة الأمريكية الحالية من خلال “تبرعات” سياسية وتعديلات ملحوظة في سياسات المحتوى لشركة Meta وحتى تغييرات في مجلس إدارتها لصالح الأجندة المتبعة من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، وكان هذا العشاء بمثابة تتويج لجهود المصالحة هذه، ووُضع زوكربيرج في مقعد الصدارة إلى جانب الرئيس.
خلال العشاء (وكما هو متوقع في مثل هذه الفعاليات) بدأ الرؤساء التنفيذيون يتناوبون على تقديم الشكر والثناء للرئيس على مبادراته، وعندما جاء الدور على قطاع التواصل الاجتماعي والاستثمار المستقبلي التفت الرئيس ترامب بشكل مباشر إلى زوكربيرج موجهاً له سؤالاً مباشراً أمام الحضور: “كم ستنفق – دعنا نقول – خلال السنوات القليلة المقبلة؟”، وفي هذه اللحظة التي التقطتها الكاميرات رد زوكربيرج بما بدا أنه إعلان ضخم ومُلزم: “على الأرجح سيكون شيئاً مثل، لا أعرف، 600 مليار دولار على الأقل حتى عام 2028 في الولايات المتحدة”.
كان الرقم صادماً في ضخامته، وهو التزام هائل بالاستثمار في البنية التحتية الأمريكية للذكاء الاصطناعي. رد فعل ترامب كان فورياً وإيجابياً؛ حيث أومأ بالموافقة وقال: “هذا كثير، شكراً لك يا مارك، من الرائع وجودك”، ثم بدا المشهد وكأنه انتصار سياسي واضح للإدارة وانتصار تجاري لـ Meta التي تضع نفسها كقائد وطني للاستثمار التكنولوجي، لكن القصة الحقيقية للرقم 600 مليار دولار لم تكن في الإعلان نفسه، بل فيما حدث بعده بدقائق.
بعيداً عن الميكروفونات الرسمية، ولكن ليس بعيداً بما يكفي، كان لا يزال هناك مايكروفون يلتقط الصوت المحيط، سُمع من خلاله زوكربيرج وهو يهمس لترامب باعتذار واضح وارتباك. اللقطة التي انتشرت لاحقاً كشفت زوكربيرج وهو يقول: “آسف، لم أكن مستعداً.. لم أكن متأكداً ما هو الرقم الذي كنت تريدني أن أذكره”.
هذه الجملة القصيرة قلبت المشهد تماماً، فبدلاً من أن يكون إعلاناً تجارياً تلقائياً من رئيس تنفيذي واثق، كشف الاعتذار أن رقم الـ 600 مليار دولار لم يكن قراراً داخلياً لـ Meta يتم إعلانه للرئيس، بل كان على الأغلب رقماً تم تنسيقه مسبقاً (أو على الأقل مناقشته بتفصيل) مع البيت الأبيض قبل العشاء، وبدا الأمر أنه جزء من “عرض” متفق عليه، وأن زوكربيرج كان مرتبكاً بشأن “السيناريو” الذي كان من المفترض أن يؤديه.
الهمسة توحي بوجود عدة أرقام مطروحة للنقاش، ربما أرقام مختلفة لآفاق زمنية مختلفة، وأن زوكربيرج لم يكن متأكداً من “الرقم المسرحي” الذي أراده ترامب لتلك اللحظة المحددة أمام الكاميرات وبقية الرؤساء التنفيذيين.
في محاولة لاحتواء الموقف بعد انتشار المقطع، سارع زوكربيرج لنشر توضيح على منصته الخاصة Threads في منشور حاول فيه زوكربيرج التقليل من أهمية الارتباك، مدعياً أنه أطلع الرئيس بالفعل على خطط الإنفاق المحتملة التي قد تتجاوز هذا الرقم بحلول نهاية العقد، كما كتب زوكربيرج: “لم أكن متأكداً من أي رقم كان يسأل عنه (رقم 2028 أم رقم نهاية العقد)؛ لذلك ذكرت الرقم الأقل حتى ’28، وأوضحت الأمر معه بعد ذلك”.
لكن بغض النظر عن هذا التوضيح الرسمي، فإن اللقطة التي التقطها الميكروفون قدمت دليلاً نادراً وغير مُفلتر على كيفية إدارة المفاوضات بين القوة السياسية في واشنطن والقوة الاقتصادية لوادي السيليكون، وكيف يمكن أن تتحول إعلانات الاستثمار بمليارات الدولارات إلى جزء من تفاهمات سياسية مُعدة مسبقاً.
?xml>